هو الركيزة الأساسية وحجر الزاوية في العملية التعليمية، وقد قيل: أعطني معلماً جيداً ومنهاجاً رديئاً أعطك طالباً جيداً، لأنه مهما كان الطالب ذكياً، والمنهاج سهلاً فلا يمكن أن نصل إلى الأهداف المرسومة لهذا المنهاج سلفاً، دون معلمين قديرين وجديرين بالثقة التي يوليها المجتمع لهم، فهم رسل المحبة والبناء بناء العقول قبل الأجسام تمر عنهم الأجيال، ويصبح تلاميذهم الصغار أو طلابهم الكبار قادة رأي ومسؤولين في مختلف المجالات، وهم على حالهم لا يتغير فيهم شيء إلا قليلا، تمتلئ الصفوف بالطلاب حتى ليبلغ عددهم في الفصل الواحد أحياناً أكثر من خمسين، بينما ترى التربية والمربون أن العدد المثالي تقريباً لكل فصل هو عشرون طالباً فقط .
وكم يعاني هؤلاء من تصحيح الأوراق والدفاتر وتنحني منهم الظهور، وتنطق الأرجل بالألم، والجيوب بالعدم، ولا يخرج منهم عن منطق الكفايات التعليمية إلا قليل ممن لا يجعل مهنة التعليم رسالة، بل يراها مجرد مهنة للعيش فقط، ووظيفة كباقي الوظائف. فاحترام المواقف الصفية وذوات المتعلمين والسعي إلى تعليم التشويق في إلقاء الدرس، وعدم ادعاء المعرفة والعلم والإحاطة بكل شيء، وتحفيز الدافعية إلى التعليم في نفوس طلابهم، والمعرفة بمبدأ الثواب والعقاب المناسبين في الوقت المناسب، دون إشعار المتعلم بأن عقابه ناتج عن حقد أو ضغينة أو دون سبب، بل من أجل مصلحة المتعلم فقط، ومراعاة الفروق الفردية في الذكاء والبديهة أو في التأخر الدراسي أو البطء في التعلم، والالتزام بالتعليم عن طريق القدوة، هذه كلها صفات يجب توافرها في المعلم الذي يحمل رسالة ليغرسها في نفوس طلابه. ويدافع عنها بكل ما أوتي من علم، وهو يعلم أن طالب العلم من ورثة الأنبياء وليس من زمرة الأشقياء الذين يسيئون هذه الأيام لمعلميهم مهما بلغت قسوة بعضهم، وخروجهم عن جادة التعليم المستقيمة ، إذ لا بد لكل مهنة من أناس لا يلتزمون بقوانينها وقواعدها السوية، كما لا بد من أن يحترم المتعلم علمه. عن سعيد جبير –رضي الله عنه- قال : «إن كان ابن عباس ليحدثني الحديث فلو يأذن لي أن أقبل رأسه لفعلت» ، وعن الشعبي –رضي الله عنه- قال:«أخذ ابن عباس ليزيد بن ثابت بالركاب وقال : هكذا يفعل بالعلماء والكبراء» . والمتعلم لا يحسد من فوقه، أو يحقر من هو دونه، ولا يبتغي بالعلم ثمناً. ومن صفات المتعلمين التي يجب أن يحيط بها طلابنا اليوم، عدم الإكثار من سؤال المعلم ليضجره، وعدم الإشارة إليه بيده، وعدم غيبته، أو لمزه أو إفشاء سره، أو طلب زلته لتعظيمها، لأنه كما قال علي –رضي الله عنه- كالنخلة تنتظر حتى يسقط عليك منها منفعة .
وحين يساعد المعلم الطالب على الاستقرار النفسي، فإنه يساعد المجتمع على الاستقرار أيضاً . وهذا جون كنيدي يشهد لأستاذه ومعلمه (هولكومب) قائلاً : « لم يكن البروفيسور هولكومب ذا تأثير عظيم بسبب سعة معرفته واطلاعه، بل بسب شخصيته وخلقه. كان هادئ الطباع، متحفظاً، مالكاً لأعصابه ورباطة جأشه، ولكنه دون شك كان شخصية مثالية . لقد كان يملك الصفات والمبادئ التي أهلته لمواجهة مسؤولياته كمعلم وكمواطن . والمعلم في حقيقة الأمر يعد مستشاراً، و ناصحاً، وصديقاً حميماً للطالب، يوفر لكل طالب من طلابه، مقداراً من الاحترام والتقدير، وينمّي شخصيات طلابه، ويراعي الشعور بالنقص لديهم .
ونرجو أن يوجه كل طالب إلى معلمه هذه الرسالة التي وجهها الإيطالي (دانتي الليغري) صاحب (الكوميديا الإلهية) إلى الشاعر الروماني (فيرجيل) حيث قال: «أنت سيدي ومرشدي . منك وحدك تعلمت الأسلوب الفاضل الذي أكسبني شرفاً» .